رغم اختلاف الرؤى حول الاعترافات المتتالية من دول العالم بدولة فلسطين، فإنه لا يمكن إنكار أهميتها في هذه المرحلة، وإن كانت تكفيراً عن ذنوب وأخطاء تاريخية شاركت فيها العديد من دول العالم، منذ وعد بلفور في العام 1917، والذي منح اليهود إقامة دولة على أرض ليست لهم، ولا حق لهم فيها، وكانت أحد الخيارات أمام يهود العالم.
الاعترافات التي رحبت بها دول العالم، ودول عربية، ورحبت بها فصائل فلسطينية، وحدها لا تكفي، بل تحتاج لخطوات متتالية، خاصة مع حرب الإبادة التي تستمر فيها قوات الاحتلال على الفلسطينيين في غزة، بل وفي الضفة، والإعلان المستمر من جانب الحكومة المتطرفة في تل أبيب عن مزيد من الأطماع، وتهديدات يومية، بخلاف ارتكاب مجازر على مدار الساعة منذ 7 أكتوبر 2023.
بل هناك خطر يلوح في الأفق، تحمله كلمات رئيس الوزراء الإسرائيلي وأعضاء حكومة المتطرفة، عن عقاب جماعي لسكان غزة والضفة، نتيجة الاعترافات المستمرة بفلسطين كدولة ذات سيادة، ووصل الأمر ببنيامين نتنياهو بالادعاء "أن إقامة دولة فلسطينية تهدّد وجود الدولة العبرية، وسنواجه الدعوات لذلك في الأمم المتحدة"، وذلك في تهديد مباشر للعالم وليس لشعب فلسطين فقط.
واستخدم مجرم الحرب، وفقا للتصنيف القضائي الدولي، لغة الاستعلاء والقوة والتحدي والتجبر، عندما قال "سيتعين علينا خوض المعركة سواء في الأمم المتحدة أو في كل الساحات الأخرى ضد التضليل المنهجي ضدنا، وضد الدعوات لإقامة دولة فلسطينية والتي من شأنها أن تعرض وجودنا للخطر، وستكون بمثابة جائزة عبثية للإرهاب".
وتخطت تهديدات نتنياهو، كل ذلك بتهديد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، بأنهم يستعيدون الإخوان، في لعبة جديدة، بلغة تتسم بالإرهاب، بغض النظر عن الموقف من الإخوان، إلا أنها لغة مفضوحة.
وسبق أن قلت وأؤكد على "هناك ارتباط وثيق بين الاعترافات بدولة فلسطين، ومحاولات الدول الأوروبية لتبييض وجه حكوماتها أمام الشعوب الثائرة في الشوارع، والاحتجاجات على حرب الإبادة المستمرة، وحرب التجويع التي تقودها الحكومة الإرهابية المتطرفة في الكيان المحتل، ومن ورائها الحكومة الأمريكية، خصوصاً في عهد شريك الكيان الإرهابي "دونالد ترامب"، ونقبل بالقول بأن الاعترافات التي جاءت متأخرة سنوات طويلة، هي أيضا تأنيب للضمير الذي غاب لعقود عن حقوق الفلسطينيين.
من المهم أن يأخذ الجميع في الاعتبار أن الكيان المحتل سيجن جنونه في الفترة المقبلة، ومن المتوقع أن يرتكب الكثير من الحماقات والأعمال الإرهابية والمجازر في مسعى للانتقام من العالم بمزيد من الإبادة في حق كل ما هو فلسطيني، بل ربما ما هو عربي، ومن هناك، فإن خطوة الاعتراف بدولة فلسطين، تتطلب خطوات أكثر قوة، للتعامل مع عدو بمعنى الكلمة، بل نازي جديد يمكن تعريفه بـ "نازي الألفية الثالثة"، ومواجهته، تحتاج للغة مماثلة.
والعزلة مهمة جداً سواء للكيان الصهيوني المحتل، والذي سأظل مصرا على تسميته بـ"الصهيوني" إلى حين، وكذلك العزلة، لـ"ملك الفيتو"، المتمثل في حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تساوى بين الجلاد والضحية، وبين القاتل والمقتول، وبين الجاني والمجني عليه، وبين من يملك الأرض والمغتصب.
ومن المهم تحليل مضمون ما قاله ترامب على لسان "كارولين ليفيت" المتحدثة باسم البيت الأبيض، والسعي الأمريكي للتقليل من الاعترافات بدولة فلسطين، حيث قالت يوم الإثنين 22 سبتمبر "إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يرى أن الاعتراف بدولة فلسطين لا يسهم في الإفراج عن الرهائن في غزة، الذي يعتبره الهدف الأساسي في الوقت الراهن، ولا يحقق شيئا يتعلق بإنهاء الصراع، بل هو مجرد كلام أكثر من أفعال، صادرة عن بعض أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها".
ولاشك أن رؤية ترامب هي انعكاس لأزمة أمريكية في مواجهة العالم الذي بات يرفض كل المبررات الأمريكية، وكذلك الإسرائيلية، بشأن الأزمة التي يمر بها شعب فلسطين، وحرب الإبادة ضد شعب أعزل، وانتهاكات الكيان المحتل في كل مكان، ومحاولة اختصار أزمة شعب فلسطين في الصراع مع "حماس".
الخطوات القادمة تحتاج إلى تحركات عربية قوية، للتوظيف الأمثل لقرارات اعترافات العالم بدولة فلسطين، لتصبح واقعاً على الأرض، والعمل على مزيد من العزلة للرافضين لحل الدولتين وحق شعب فلسطين في وطن مستقل يتمتع بكل سيادة، والعمل على تفريغ كل ما قاله "دونالد ترامب" من مضمونه، خصوصاً هذا التعبير الأرعن "الاعتراف كلمات وليس أفعالا ملموسة".. أعتقد أنه بالإرادة.. نحن قادرون على الفعل.
---------------------------------
بقلم: محمود الحضري